VoyForums
[ Show ]
Support VoyForums
[ Shrink ]
VoyForums Announcement: Programming and providing support for this service has been a labor of love since 1997. We are one of the few services online who values our users' privacy, and have never sold your information. We have even fought hard to defend your privacy in legal cases; however, we've done it with almost no financial support -- paying out of pocket to continue providing the service. Due to the issues imposed on us by advertisers, we also stopped hosting most ads on the forums many years ago. We hope you appreciate our efforts.

Show your support by donating any amount. (Note: We are still technically a for-profit company, so your contribution is not tax-deductible.) PayPal Acct: Feedback:

Donate to VoyForums (PayPal):

Muhammad, the Prophet of God

Who is He?!

محمد رسول الله
صلى عليه الله و سلم
إذا ما سئلت في الغرب عن مصدر إعلامي حول سيرته

شبكة عجور الحاسوبية
Login ] [ Contact Forum Admin ] [ Main index ] [ Post a new message ] [ Search | Check update time | Archives: 12[3]4 ]

Subject: المقاومة في الشعر الأندلسي


Author:
No name
[ Next Thread | Previous Thread | Next Message | Previous Message ]
Date Posted: 11:36:05 11/21/07 Wed
In reply to: 's message, "مختصر تاريخ الأندلس" on 06:06:11 04/20/07 Fri

المقاومة في الشعر الأندلسي
دراسة تحليلية نقدية
لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بله علي
يرى بعض الكتاب أن أوربا هي أول من عرف أدب المقاومة، وذلك حين وقعت في قبضة النازية، فكان الأدب أحد العناصر القتالية التي قاومتها، وشنت عليها حرب شعواء، فقد بدأ الأدب يكشف مخازيها وإهدارها لكرامة الإنسان، فعبأ النفوس وأشعل جذوة الحماس، ودعا للقتال، ونادى لمقاومتها، حتى يتقلص ظلها وتذهب ريحها، فتسلم البشرية من بالغ ضررها وعظيم خطرها.
هذه النظرة إن خلت من التعصب فهي قطعا لا تخلو من القصور، ذلك أن الأدب العربي قد سبق الأوربي إلى ميدان المقاومة، فهو حتى في جاهليته لم يكن بمعزل عن وجدان الأمة منصرفا عن احتياجاتها مقصراً في الذود عن قيمها. بل كان فكرها المدبر ولسانها المعبر يحدو مسيرتها، ويعبئ قواها، ويثر حماسها خاصة في الأوقات التي تتعرض فيها للهزائم العسكرية والهزات النفسية.
ونحن نعرف أن القبيلة في الجاهلية كانت تقيم الحفلات وتدق الطبول ابتهاجا بنبوغ شاعر، لأنه سيكون الناشر لأمجادها الذائد عن حياضها. وكان الشاعر إذا مدح قبيلة رفعها مكانا عاليا رغم دنو منزلتها وحقارة شأنها، وإذا هجا أخرى حط من قدرها وإن كان ذاهباً في أجواء السماء. ومرجع هذا طبيعة الكلمة العربية ذات الخاصية المتفردة، فهي إذا ما صيغ منها شعر موزون أو نثر مسجوع فعلت في النفوس فعل السيف في الأبدان فلا غرو إن شبهوا اللسان بالسيف. قال سويد بن أبي كاهل اليشكري:
ولسانا صيرفيا صارما كحسام السيف ما مس قطع
ولما جاء الإسلام بما خالف عليه العرب في حياتهم الدينية والاجتماعية، وجد الشعر نفسه أمام معركة لم يلبث أن حدد فيها دوره، وأخذ مكانه، وأعلن إلتزامه، فكان أحد الأدوات الحربية والوسائل النضالية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض حسان بن ثابت على قول الشعر رداً على المشركين، وكان يخبره أن شعره أشد عليهم من وقع النبال، ويدعو له: "اللهم أيده بروح القدس" .
وظل الشعر يواكب مسيرة الأمة في عصورها المختلفة، يتغنى بنصرها، ويستعرض مواقف المجد والبطولة في تاريخها، ويستنهض هممها، ويحرك مشاعرها وينعى عليها تخاذلها وقعودها عن جهاد العدو المتربص بها الطامع في أرضها.. وهكذا مضى هذا التيار الهادر حتى وصل مداه وبلغ زباه في الأندلس.
ونعني به هنا الشعر الذي أنشئ أيام الحرب الإسلامية المسيحية التي دارت رحاها في جزيرة الأندلس، وكما عرفنا آنفا بأن الأدب العربي حتى في جاهليته لم يخل من شعر المقاومة إلاً أنه لم يكن بالتوسع والعمق اللذين نجدهما في الأدب الأندلسي، ولعله مما أكسبه ذلك طبيعة الأحداث التي جرت في منطقته، إذ أن الأمة الإسلامية لم تعرف في تاريخها الطويل نكبة كتلك التي وقعت في أندلسها، ورغم ما وقع في مشرقها من حروب التتر والمغول والصليبيين إلاً أنها استطاعت أن تنتصر على هؤلاء جميعا، وأن تخرج من تلك النكبات وهي أقوى عوداً وأمضى عزما وأشد مراساً بينما لم تستطع ذلك في الأندلس، فقد تقلص هناك ظلها، وطويت رايتها، وأفلت شمس وجودها، فلا عجب إن كان الشعر الأندلسي أكثر بكاء وأحر ندبا وأشد حرقة وأعلى صوتا وأعمق أثرا في استنهاض الهمم وتحريك المشاعر حتى شعرهم الرثائي لم يكن خلواً من المضامين النضالية والصرخات الإنذارية والإشراقات الوطنية، فقد كانوا طوال فترة الحرب يعبئون الجهود، ويشحذون العزائم، وهم يرْثون المدن الضائعة ويبكون جمالها الذاهب، وقد فطن بعض الكتاب لهذا الملحظ فقال: ((.. ولم تسقط مدينة في يد مسيحي الشمال إلا بكوها، وتفجعوا عليها تفجعا حاراً، وهو تفجع كانوا يضمنونه استصراخاً للمسلمين في مغارب الأرض ومشارقها لعلهم يستنقذون تلك المدن من براثن الأسبان، ويستعيدونها إلى حضيرة الإسلام قبل أن تدك هناك كل صروحه، وتسقط كل رايته وأعلامه)) .
وقد توسع مدلول المقاومة عندهم فشمل الدعوة إلى الثورة على الملوك الذين خضعوا لملوك النصارى، واستعانوا بهم على إخوانهم في العقيدة والوطن، كما شمل محاربة المنكرات الفاشية والمفاسد البادية بحسبانها سبب الضعف والهلاك، وشمل كذلك الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ومقاومة العدو المغير، كما شمل أيضاً البحث عن قيادة رشيدة تجمع شمل الأمة، وتمضي بها في عزم وثبات، ولا ننسى القصيدة المادحة التي مجدت الأبطال، وتغنت بانتصاراتهم وقد استعانت في نقل التجربة وتكثيف العاطفة بالمعنى الحي والكلمة المؤثرة والصورة المعبرة التي تستلفت النظر، وتستوقف العجل، وتستنفر القاعد، وتجعل المرء يخوض غمار الحرب بصدر رحب وجنان جريء وعزم قوي. هذا، وقد ارتفع صوت هذا الشعر حتى جاوز حدود الأندلس الجغرافية فشّرق وغرّب مستنجدا مستنهضاً.
ونحب أن تقف عند بعض ضروب المقاومة التي ألمحنا إليها آنفاً، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، إذ أن تتبع جزئياتها والإلمام بها يحتاج إلى جهد متصل وبحث منفصل قد لا تتسع له مجلة تعالج أكثر من موضوع.
من ذلك ما قاله خلف بن فرج الألبيري في حكام غرناطة:
ناد الملوك وقل لهم ماذا الذي أحدثتموه
أسلمتم الإسلام في أسر العدا وقعدتمو
وجب القيام عليكمو إذ بالنصارى قمتمو
لا تنكروا شق العصا فعصا النبي شققتمو
فالشاعر هنا يعلنها ثورة على هؤلاء الحكام الذين فرطوا في الدفاع عن الإسلام وخذلوه حين أسلموه للأعداء برضوخهم لهم، فتخلوا عن قيمه، وقعدوا عن حمايته، وقد مضوا في هذا الطريق الخطر إلى غاية ما بعدها إلا العثور وذلك حين استعانوا بالنصارى بعضهم على بعض في عراكهم الذي هو غير معترك، ومن أجل ذلك وجب مقاومتهم وشق العصا عليهم، لأن طاعتهم والتسليم لهم سيقود حتما إلى نهاية أليمة وعاقبة مخزية وخيمة. والشاعر هنا يبرر الخروج على الملوك بأنهم أحدثوا في الإسلام حدثاً، وأنهم سلموه للأعداء، وقعدوا عن نصرته، وأنهم ما لأو الكفار وواطؤهم على النيل منه، وأنهم عصوا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذه كلها براهين يسوقها لتأييد قضيته وتدعيم دعوته ووجاهة فكرته.
وقد تناول الشعر المنكرات، فشدد النكير على مرتكبيها مبينا مضارها وخطورة انتشارها، فقال أحد الشعراء عند سقوط طليطلة، في يد الأسبان عام 478هـ:
فإن قلنا العقوبة أدركتهم وجاءهم من الله النكير
فإنا مثلهم وأشد منهم نجور وكيف يسلم من يجور
أنأمن أن يحل بنا انتقام وفينا الفسق أجمع والفجور
وأكل للحرام ولا اضطرار إليه فيسهل الأمر العسير
ولكن جرأة في عقر دار كذلك يفعل الكلب العقور
يزول الستر عن قوم إذا ما على العصيان أرخيت الستور
إن نكبة طليطلة لم تأتي ضربة لازب، وإنما تقدمتها أسباب مهدت لها، وساقت إليها، من تلك الأسباب ما ذكره الشاعر في أبياته المتقدمة، وكما هو واضح فإنا ما ذكره لم يكن قاصراً على طليطلة منتشرا بين أهلها وحدهم وإنما هو عام في كثير من الأقاليم والمدن، ولو أن المسلمين هناك وعوا الدرس لعادت نكبة طليطلة ربحاً لبقية مدن الأندلس، ولكنهم استمرأوا ارتكاب المنكرات من فسق وفجور وأكل للحرام من غير اضطرار، ومن تجرؤ على حدود الله وارتكاب للمعاصي في السر والعلن، فلا عجب إن عمت مصيبتهم ونزلت من سماء الأندلس رايتهم.
ولا شك أن مقاومة هذه الأمراض الاجتماعية التي تفتك بالأمة أمر تحتمه المحافظة على جسم الأمة صحيحا وروحها قويا وعزمها صلبا حديداً، فذلك أدعى لصمودها أمام من عاداها وردٍ سهام من رماها.
وكان الشعر يدعو إلى الجهاد، ويرغب فيه ذاكراً ما أعد للمجاهدين من أجر عظيم ومثيراً الحفائظ بأبلغ ما تستثار به من حماية الدين وتدعيم لأركانه، وتمهيد لنشره بين الناس. من ذلك ما قاله إبراهيم بن خلف المتوفى سنة 649هـ.
ورداً فمضمون نجاح المصدر هي عزة الدنيا وفوز المحشر
يا معشر العرب الذين تواراثوا شيم الحمية كابراً عن كابر
إن الإله قد اشترى أرواحكم بيعوا ويهنيكم وفاء المشترى
أنتم أحق بنصر دين نبيكم وبكم تمهد في قديم الأعصر
أنتم بنيتم ركنه فلتدعموا ذاك البناء بكل لدن أسمر
ولكم عزائم لو ركبتم بعضها أغنتكم عن كل طرف مضمر
الكفر ممتد المطامع والهدى مستمسك بذناب عيش أغبر
والخيل تضمر في المرابط غيرة ألاً تجوس حريم رهط أصفر
كم نكروا من معلم كم دمروا من معشر كم غيروا من معشر
كم أبطلوا سنن النبي وعطلوا من حلية التوحيد صهوة منبر
أين الحفائظ مالها لم تنبعث أين العزائم مالها لا تنبري
أيهزٌ منكم فارس في كفه سيفاً ودين محمد لم ينصر
فالشاعر هنا يأمرهم بورود حوض المنايا جهاداً في سبيل الله ضامنا لهم نجاح المصدر فهو: إما نصر وسيادة وإما قتل وشهادة، ثم يذكرهم بأنهم أهل الحمية الإسلامية والنخوة العربية التي هي إرث موروث لهم أبا عن جد مستنهضا بذلك ما همد من عزائمهم ومشعلاً ما خمد من رجولتهم، مذكراً لهم بأنهم قد باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى مشيراً بذلك إلى قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ..}الآية .
وهو هنا يشتار من رياض القرآن، ويعتصر رحيق الآيات، ليأخذ من جماله زينة لأسلوبه ومن قوته دعماً لمعانيه، فما دام الأمر كذلك فليس هناك أحد أحق بدعم هذا الدين منكم أنتم الذين بعتم أنفسكم وأموالكم في سبيله لقاء الجنة، ثم أنتم الذين شيدتم أركانه، وأعليتم بنيانه، ومهدتم طريق نشره بين العالمين، ومما يعينكم على ذلك عزائمكم الماضية التي لو ركبتم بعضها لأغنتكم عن الخيول الضامرة، فلم هذا التقاعس والكفر مرفوع الراية ممتد الرواق مسنود الجانب طمعاً في القضاء على الإسلام بينما ((الهدى مستمسك بذناب عيش أغبر)) وهذا التعبير كناية عما يعانيه الإسلام الذي هو دين الهدى من اضطهاد وخذلان وانكسار جناح، ثم يبالغ في استثارتهم فيقول إن هذا الأمر قد استفز حتى العجماوات، فها هي الخيل تتحرق شوقا وتتحرك ضجراً في مرابطها ألا تجد سبيلا إلى ميدان الوغى لمقاتلة الرهط الكفار الذين أبطلوا سنن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعطلوا المنابر من دعوة التوحيد ونكروا المعالم وغيروا المشاعر، وقتلوا المسلمين، لعله بذلك يبعث عزائمهم، ويثير حفائظهم، ويدفع إلى الجهاد كتائبهم، ثم يخاطبهم في لهجة استنكارية ونغمة توبيخية فيقول:
أيهزٌ منكم فارس في كفه سيفاً ودين محمد لم ينصر
ولئن سلكت هذه الكلمة مسلك الشدة في الخطاب والعنف في العتاب فإن الكلمة الآتية قد نهجت نهجا تميز بالهدوء والرقة إلا أن قسوتها في رقتها، وعنفها في هدوئها، وأعني بهذا تلك القصيدة التي أرسلها لسان الدين بن الخطيب المتوفى سنة 776هـ إلى أهل المغرب في الاستنفار للجهاد وإغاثة الأندلس والتي يقول فيها:
إخواننا لا تنسوا الفضل والعطفا فقد كاد نور الله بالكفر أن يطفأ
وإذا بلغ الماء الزبا فتداركوا فقد بسط الدين الحنيف لكم كفا
تحكم في سكان أندلس العدا فلهفا على الإسلام ما بينهم لهفا
وقد مزجت أفواهها بدمائها فإن ظمئت لارى ألا الردى صرفا
أنوماً وإغفاء على سنة الكرى وما نام طرف في حماها ولا أغفا
أحاط بنا الأعداء من كل جانب فلا وزراً عنهم وحداً ولا لهفا
ثغور غدت مثل الثغور ضواحكا أقام عليها الكفر يرشفها رشفا
فهو يبدأ قصيدته بكلمة ((إخواننا)) لإثارة الحمية والعطف في نفوس المخاطبين إدراكا للإسلام الذي كاد الكفر يطفئ نوره وقد بلغ الأمر مبلغه من الشدة والحرج ولم يعد ممكن الاحتمال، وها هو الدين يبسط لكم كفه مستنجدا بعد أن مد الأعداء أياديهم إلى راياته، وبسطوا سطوته على أهله، وعاثوا في الأندلس فسادا، وأذاقوا أهلها ذلا واضطهادا، فمن ظمئ منهم لا يجد إلاً كأس المنية مشربا، فلم النوم والإغفاء وبلاد الإسلام لم ينم لها طرف ولا غفا لها جفن وها هم الأعداء قد أحاطوا من كل جانب ولا معين ولا نصير.
وفي البيت الأخير يشير إلى ما عليه ثغور الإسلام من رونق وجمال، وكأنها بذلك تطمع الأعداء فيها، وتغريهم بالهجوم عليها، ولما شبهها بالثغور رشح ذلك أن يقول:
ثم بين الصلة التي تجمعهم والحبل الذي يربطهم والعروة التي يعتصمون بها فقال:
وسيلتنا الإسلام وهو أخوة من الملأ الأعلى تقربنا زلفى
أخوفاً وقد لذنا بجاه من ارتضى وذلاً وقد عذنا بعز من استعفى
فهل ناصر مستبصر في يقينه يجير من استعدى ويكفي من استكفى
وهل بائع فينا من الله نفسه فلا مشتر أولى من الله أو أوفى
أفي الله شك بعد ما وضح الهدى وكيف لضوء الصبح في الأفق أن يخفى
وكيف يعيش الكفر فينا ودوننا قبائل منكم تعجز الحصر والوصفا
غيوث نوال كلما سئلوا الندى ليوث نزال كلما حضروا الزحفا
فقوموا برسم الحق فينا فقد عفى وهبوا لنصر الدين فينا فقد أشفى
فالإسلام هو الدين الذي يجمع بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وتباعد أقطارهم ويجعل منهم إخوة يأسى يعضهم لجراح بعض، ويسمو بأرواحهم إلى الملأ الأعلى، ويكوّن. منهم وبهم قوة تهوي على رأس العدو وتحطمه، فهم على الله متوكلون وبنصره واثقون، فلم الخوف وهو أقوياء، ولم الذل وهم أعزاء، ولم التهيب وركنهم شديد.
ثم يلتفت فيسأل في لهفة وشوق عن رجل قوي اليقين واثق من نصر ربه ليكون غياثا لهؤلاء الضعفاء، فيرد الطمأنينة إلى قلوبهم وسهام الأعداء إلى نحورهم ثم يعتب عليهم بأنهم قبائل لا يحصيها العدد، ولا يعوزها المدد والكفر ممتد رواقه ظاهر في الأرض عيثه وإفساده، فليهبوا للجهاد بأموالهم فهم غيوث هاطلة، وبأنفسهم فهم ليوث ضارية، فقد أظلهم زمانه، وحل بينهم إبانه.
ومما يدخل في شعر المقاومة المديح الذي مجد البطولة، وأثنى على الأبطال، وألهب المشاعر الوطنية، وأضرم القلوب والصدور غيرة وحماسا، ونظر بعين الأمل والرجاء لعله يرى تباشير النصر تلوح من قريب. من ذلك ما قاله أبو جعفر المرقشي من قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين يوسف بن عبد الله المؤمن بن علي صاحب مراكش عندما دخل الأندلس، وأخذ يسترجع كثيرا مما أخذه النصارى من المدن مطلعها:
أبت غير ماء للنخيل ورودا وهامت به عذب الحمام ورودا
يقول:
ألا ليت شعري هل يمد لي المدى فأبصر شمل المشركين طريدا
وهل بعد يقضي النصارى بنصرة تغادرهم للمرهقات حصيدا
ويغزو أبو يعقوب في شنث يافث يعيد عميد الكافرين عميدا
ويلقي على إفرنجهم عبء ككل فيتركهم فوق الصعيد هجودا
يغادرهم جرحى وقتلى مبرحا ركوعا على وجه الفلا وسجودا
فهو هنا يتطلع مستشرقا إلى اليوم الذي يرى فيه شمل الكفار مبددا، وقد انتصر عليهم المسلمون بعد أن ألحموهم سيوف الحق، وجرعوهم كئوس الموت، ومضى أبو يعقوب فغزاهم في عقر دارهم ومكان عبادتهم.... في شنث يافث وهي كنيسة عظيمة في ثغور ماردة لها عند النصارى قداسة دينية عظيمة لأسباب ذكرها الحميري في كتابه: صفحة جزيرة الأندلس صفحة 115، وهناك ألقى عليهم بثقله، ورماهم بجنده، وأسر عميدهم فغادرهم ما بين قتيل وجريح وساجد على وجه الأرض. وهذا تعبير رائع يعج بالحركة، ويرسم صورة حية لما يتمنى أن تنتهي إليه هزيمة الكفار، فهو أشبه ما يكون بمهندس بارع يرسم خريطة منزل على صفحة الورق ثم يطلب من العمال تنفيذها على صفحة الأرض.
وينعى شعر المقاومة على الناس تركهم أوطانهم ونزوحهم إلى غيرها هروباً من المدافعة والتماسا للنجاة، فيقول أبو المطرف بن عميرة المتوفى سنة 658هـ:
كفى حزناً أنا كأهل محصب بكل طريق قد نفرنا وننفر
وإن كلينا من مشوق وشائق بنار اغتراب في حشاه تسعر
ألا ليت شعري والأماني ضلة وقول ألا ليت شعري تحير
هل النهر عقد للجزيرة مثلما عهدنا وهل حصباؤه وهي جوهر
وهل للصبا ذيل عليه يجره فيزور عنه موجه المتكسر
وتلك المغاني هل عليها طلاوة بما راق منها أو بما راق تسحر
ملاعب أفراس الصبابة والصبا نروح إليها تارة ونبكر
وقبل ذاك النهر كانت معاهد بها العيش مطلول الخميلة اخضر

في هذه الأبيات نجد نهجا جديدا في المقاومة.. نهجا يعتمد على الإقناع المنطقي والروح الإنساني، ويعدل عن اللهجة الحادة التي نجدها في قصيدة المرقشي السابقة والتي دعا فيها إلى حصد الأعداء وسحقهم واتخاذ بساط من أشلائهم إلى غير ذلك.
أما أبو المطرف فقد عدل عن كل ذلك إلى القول الهادي والأسلوب المقنع حين ذكر أن هذه الأرض ذات الأنهار الجارية الخمائل المخضرة والمغاني الساحرة والهواء النقي هي ملاعب صبانا ومراتع لهونا ومنابت رزقنا، وهي من أجل ذلك واجب علينا البقاء فيها والدفاع عنها، وبهذه الجمل الهادئات الهامسات ينجح الشاعر في إقناع هؤلاء الفارين النازحين بالبقاء في ديارهم والعيش على أرضهم ودفع العدو المغير حتى لا تثبت أقدامه فيها، وتمتد يده إلى ما سواها.
ونحن نعلم أنه عندما سقطت طليطلة في يد الأسبان ظهرت دعوة تنادي إلى شد الرحال والهجرة إلى خارج الأندلس من ذلك ما قاله ابن العسال:
حثوا رحالكم يا أهل أندلس فما المقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأرى سلك الجزيرة منثورا من الوسط
من جاور الشر لا يأمن بوائقه كيف الحياة مع الحيات في سفط
وقد تصدى الشعر لهذه الدعوة فحاربها، وبين سوء عاقبتها وعظيم مخاطرها من ذلك هذه الأبيات الرائية التي استغل الشاعر فيها العاطفة الوطنية ومازال يبدئ فيها ويعيد، ويعزف على هذا الوتر الحساس تكثيفاً للعاطفة وإثارة للحمية حتى يقنع هؤلاء النازحين بالرجوع إلى ديارهم والبقاء فيها، فذلك أحفظ لكرامتهم، وأحمى لحوزتهم.
ومن شعر المقاومة الشعر الذي تطلع إلى قائد ينهض بالأمة من كبوتها، ويخلصها من محنتها، ويدفع عنها وبها كيد عدوها. يقول بعضهم:
ألا رجل له رأي أصيل به مما نحاذر نستجير
يكر إذا السيوف تناولته وأين بنا إذا ولت كرور
ويطعن بالقنا الخطار حتى يقول الرمح ما هذا الخطير
عظيم أن يكون الناس طراً بأندلس قتيل أو أسير
أذكر بالقراع الليث حرصاً على أن يقرع البيض الذكور
يبادر خرقها قبل اتساع لخطب منه تنخسف البدور
يوسع للذي يلقاه صدراً إذا ضاقت بما تلقى الصدور
فهو هنا يستشرف إلى رجل عبقري في تفكيره حازم في رأيه وتدبيره قوية عزيمته مشدودة شكيمته، لا يرام ما وراء ظهره، صبور في ميدان القتال، لا يستسلم مهما عظمت الخطوب وكثرت العقبات وأظلمت الدروب بل يقتحمها بفكر نير وعزم قوي وسيف مسلول ذوداً عن حرمات الأمة وحماية لظهرها، وأنه إذا رأى خرقاً بادر بسده وإذا أبصر خطراً أسرع برده توحيداً للكلمة وصوناً لها من الفرقة والانقسام، ويزين كل هذه الخلال سعة صدر يلقى بها الأمور الخطيرة إذا ضاقت بها الصدور.
إن الناظر في واقع الحكام المسلمين يوم ذاك يجدهم قد انشغلوا بملذاتهم عن الدفاع عن الإسلام وأهله ودياره، كما أن المعارك فيما بينهم قد استوعبت جهدهم واستقطبت طاقتهم، ومن ثم فإن الشاعر قد يئس منهم، وانصرف عنهم، وأصبح كأنه يصيح في عالم المجهول بحثا عن قائد ذكي التفكير حكيم التدبير تجد فيه الأمة ضالتها المفقودة وأمنيتها المنشودة، يوحد صفها، ويجمع كلمتها، ويتجه بها إلى ميدان المعركة، ويواجه بها أعداءها صابراً محتسبا، لا يجد اليأس إلى نفسه سبيلاً، ولا ترى في أعماله من الرياء فتيلا.
ومما يدخل في هذا الباب الشعر الذي تحدث عما حل بالمساجد من تحويلها إلى الكنائس وارتفاع صوت النواقيس بداخلها بدل الأذان وتعطيل الصلوات فيها وتلويثها بعقيدة الشرك وأكل الخنزير وشرب الخمر وما أصاب السكان من تقتيل وتشريد للرجال وسبي النساء وامتهان لعفتهن، وفي هذا يقول عمرو بن المرابط:
كم من جامع فيها أعيد كنيسة فأهلك عليه أسى فلا تتجلد
القس والناقوس فوق مناره والخمر والخنزير وسط المسجد
أسفي عليها أقفرت صلواتها من قانتين وراكعين وسجد
وتعوضت منهم بكل معاند مستكبر مذ كان لم يتشهد
كم من أسير عندهم وأسيرة فكلاهما يبغي الفداء فما فدى
كم من عقيلة معشر معقولة فيهم تود لو أنها في ملحد
كم من وليد بينهم قد ودً من ولداه وداً أنه لم يولد
كم من تقيٍ في السلاسل موثق يبكي لآخر في الكبول مقيد
وشهيد معترك توزعه الردى ما بين حد ذابل ومهند
ضجت ملائكة السماء لحالهم ورقً لهم من قلبه كالجلمد
ثم يقول:
أكذا يعيث الروم في إخوانكم وسيوفكم للثأر لم تتقلد
يا حسرة لحمية الإسلام قد خمدت وكانت قبل ذات توقد
فشعر كهذا مثير للحفائظ محرك للمشاعر، فقد استعمل فيه الشاعر القلم والريشة فجاءت صورة واضحة المعالم تستلفت النظر، وتستوقف العجل ثم يبالغ في استثارة المشاعر الدينية والعواطف الإنسانية، فيذكر ما حل بالمساجد التي حولت إلى كنائس والمآذن التي تعطل الأذان فيها، وارتفع من فوقها صوت الناقوس والمحاريب التي خلت من الركع السجود، وعمرت بكل معاند متكبر لا ينطق بشهادة التوحيد.
وقد كان للنصارى تقاليد معينة في تحويل المساجد إلى كنائس، فما إن يفتحوا بلداً، وتتم لهم السيطرة عليه حتى ينتظموا في موكب فخم يتقدمه الكهنة وفرسان الجماعات الدينية، ويتجهوا صوب المسجد وهم ينشدون أناشيد الحمد والثناء ثم يتم تحويله إلى كنيسة، ويرفع فوق ساريتها علم النصر .
ومن أبشع ما ارتكبه النصارى انتهاك الحرمات وامتهان الكرامة الإنسانية والاعتداء على عفة النساء، فكم من أسير وأسيرة امتهنت كرامتها، ولم يجدا إلى الفداء سبيلاً، وكم من امرأة مصونة اعتدي على عفتها حتى تمنت لو أنها في قبر، وكم من طفل حيل بينه وبين والديه حتى تمنيا أنه لم يولد، وكم من تقي عابد كبل بالسلاسل، وكم من شهيد قطعته السيوف إرباً إرباً .. إنها حال بلغت من القسوة النهاية، وتجاوزت في سوءها الغاية حتى لقد ضج أهل الملأ الأعلى وانفطر منها قلب الجليد، واهتز لها وقار الحليم، ولا شك أن ذلك من أبلغ ما يستثار به غيور أو تستنهض به همة، أو يدعى به إلى نجدة.
وقد استعان الشاعر في تعبيره للوصول إلى هدفه بإثارة العواطف الدينية والأسرية وبالإلحاح على صور المأساة وأوضاعها مما كثف آثارها فجعلها تسيطر على نفوسنا، وتهيمن على حسنا، وتنفخ في جمرة الحمية.
وقد استغل الشاعر ما وصلت إليه النفوس من حماس وغليان فقال:
أكذا يعيث الروم في إخوانكم وسيوفكم للثأر لم تتقلد
يا حسرة لحمية الإسلام قد خمدت وكانت قبل ذات توقد
ولكن هذه الصيحات ذهبت جميعاً أدراج الرياح، ونفذ أمر الله، وخرج المسلمون من الأندلس بعد ثمانية القرون التي كانت حجر الزاوية في بناء الحضارة الأوروبية الحديثة.. خرجوا وقد تركوا تراثاً ثقافياً ضخماً على صفحات الكتب وآثاراً عمرانية رائعة على صفحة الأرض تشاهد الآن وكأنها نوادب تبكي قوماً رحلوا، وتتطلع في لهفة إلى عودتهم.

[ Next Thread | Previous Thread | Next Message | Previous Message ]

Replies:
Subject Author Date
مدن و قرى الأندلسNo name12:03:30 11/22/07 Thu


[ Contact Forum Admin ]


Forum timezone: GMT-8
VF Version: 3.00b, ConfDB:
Before posting please read our privacy policy.
VoyForums(tm) is a Free Service from Voyager Info-Systems.
Copyright © 1998-2019 Voyager Info-Systems. All Rights Reserved.